يؤسس هذا الكتاب للأستاذ الدكتور هي سو لي فهما علميا للعلاقات الثقافية بين كوريا والعالم الإسلامي من خلال سرد شامل لتاريخ التفاعلات بين العالمين.
وتعود بدايات التفاعلات الثقافية بين كوريا والعالم الإسلامي إلى القرون الأولى الهجرية وذلك نتيجة للعلاقات التجارية التي ربطت التجار والبحارة والمستكشفين من مناطق عديدة في آسيا الغربية مع الصين وكوريا ومحيطهما، وهي روابط أُسِّست قبل ظهور الإسلام عبر طريق الحرير البحري. وشهدت القرون التي تلت تلك الحقبة الزمنية، تبادلات مكثفة في المجالات الثقافية كما يتضح من الروايات الجغرافية المكتوبة باللغتين العربية والفارسية، والمحفوظات والسجلات الرسمية، وكتابات الرحالة، وترجمات الأعمال العلمية، ونقل تقنيات التصنيع، والتأثيرات المتبادلة في مجال الفنون، وما إلى ذلك، والتي عززت تماما معرفة العالمين ببعضهما البعض. وبحسب هذا الكتاب التوجيهي، فإن هذا التطور استمر مع تدفق وتزايد تأثير الشعوب الإسلامية في كوريا في القرن الثالث عشر، بيد أنّه لا يوجد دليل واضح على أن المسلمين استقروا بعد ذلك في كوريا بشكل دائم أو أنهم حاولوا نشر دينهم هناك. وفي عهد سلالة يوان الحاكمة (1270 ـ 1368) وخلال العصور المبكرة من حكم سلالة جوسون (1392 ـ 1910) الذي امتد لخمسة قرون، لم يكن لدى الجالية المسلمة في كوريا أية مشاكل في ممارسة شعائرها الدينية، إلى أن أدّت سياسات الحكام المحافظة التي تؤكد على الكونفوشيوسية الجديدة إلى تقليص شعائر المسلمين، مثل ما نصّ عليه المرسوم الملكي الصادر عام 1427. وشهدت القرون التالية تضاؤلا في تواجد المسلمين في كوريا وفتورا في العلاقات معهم، ويعود ذلك إلى الهيمنة الساحقة للدول التجارية الأوروبية على التجارة الخارجية لكوريا. ثمّ استؤنفت العلاقات بين المسلمين وكوريا من جديد في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. ثم شهدت عشرينيات القرن الماضي وصول مجموعة من الأتراك الروس إلى كوريا، وفي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، انطلقت مرحلة جديدة من العلاقات مع توطين مجموعة من المسلمين الأتراك في كوريا مِمَّن شاركوا في الحرب الكورية (1950 ـ 1953) تحت راية الأمم المتحدة، وأدى ذلك إلى إرساء مجتمع مسلم حديث في كوريا وظهور المسلمين الكوريين. ويصف هذا الكتاب كل مرحلة من هذه المراحل من تاريخ طويل من التفاعلات.
أمّا في عصرنا الحالي، فقد تعززت خلال العقود الأخيرة الروابط بين كوريا والعديد من الدول الإسلامية في غرب آسيا، لا سيما من خلال العلاقات الثنائية المزدهرة في مجاليْ التجارة والتكنولوجيا. وبالتزامن مع ذلك، كان هناك نموٌّ ملموس للتبادلات الثقافية، في مجال الفنون والموسيقى واللغات والآداب، بين كوريا والعديد من البلدان الإسلامية، ذلك أنّ شعوب العالمين التي نشأت على ضوء ذكريات إيجابية وصور ودية لبعضها البعض، دعمت هذه العملية وشجعت على زيادة تطويرها. وهذه الملاحظة الأخيرة، على وجه التحديد، هي مسألة فضول علمي للمؤرخ، كما أنها تشدّ انتباه القارئ العام وتثير فضوله بشأن ما يمكن أن تكون الحقائق والعوامل التي تفاعلت في بناء الروابط الثقافية بين كوريا والعالم الإسلامي.
ويبرز كل ما تقدم أنّ هذين العالمين، وعلى الرغم من أنهما متباعدان جغرافيًا ومختلفان ثقافيًا عن بعضهما البعض، فإنّ لهما أوجه تشابه في عقلياتهم وعاداتهم. وأخذ إرسيكا كلّ ما تقدّم بعين الاعتبار فأولى أهمية لتعزيز البحوث حول تأثيرات الثقافة الإسلامية في شرق آسيا، من منظور تاريخي وراهن. وبالتالي، خصّص المركز بعضا من مؤتمراته التي تندرج ضمن «سلسلة العلاقات الثقافية بين العالم الإسلامي والحضارات الأخرى»، إضافة إلى العديد من منشوراته ضمن «سلسلة مصادر ودراسات حول تاريخ الحضارة الإسلامية»، إلى شرق آسيا.
ومن المؤتمرات التي عقدها المركز في هذا المجال، مؤتمر بعنوان «كوريا والعالم الإسلامي: لقاءات تاريخية وثقافية»، تم تنظيمه بالاشتراك مع مركز الدراسات الكورية في الشرق الأوسط بجامعة هانيانغ الكورية، بتنسيق من الأستاذ الدكتور هي سو لي في 2018 ، وآخر حول «الصين والعالم الإسلامي»، بالاشتراك مع الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، بكين، في 2012 و2015 و2017 و2019)، وثالثا بعنوان «الحوار بين الأديان والتعايش السلمي في المجتمعات متعددة الثقافات»، والذي تم تنظيمه بالاشتراك مع إرسيكا ومعهد ديفاونجس فاروباكارن للشؤون الخارجية، بانكوك، تايلاند، في عام 2016. وأكَّد المتخصصون المشاركون في تلك الندوات، ما لاحظه إرسيكا بأنّ تاريخ التفاعلات، ولا سيما الثقافية، بين العالم الإسلامي من جهة ودول ومجتمعات شرق آسيا من جهة أخرى، لم تلق الاهتمام الذي تستحقه في سياق الدراسات الإسلامية. ولهذا فإنّ من شأن هذا الكتاب أن يسدّ الفجوة فيما يتعلق بالدراسات التاريخية لعلاقات العالم الإسلامي مع كوريا، فمؤلّفه أستاذ في قسم الأنثروبولوجيا الثقافية، بجامعة هانيانغ، كوريا، ومدير متحف الجامعة. ثم إن معرفته الوثيقة بالثقافات الإسلامية في غرب آسيا مستمدة بشكل أساسي من الدراسات والأعمال الميدانية التي أجراها منذ عام 1979 في عدد من البلدان، بما في ذلك تركيا والمملكة العربية السعودية وتونس ومصر وإيران وماليزيا وأوزبكستان. وقد كرس سنوات من البحث لهذا الكتاب، بدءا بدراسة الدكتوراه في تركيا حيث أعدّ أطروحة بعنوان «انتشار الثقافة الإسلامية التركية إلى شرق آسيا» مكتوبة باللغة التركية.
وبدعوة من إرسيكا، قام المؤلف بترجمته إلى اللغة الإنجليزية وصدر في عام 1997 تحت عنوان «ظهور الإسلام في كوريا». واستمر اهتمام المؤلف بهذا الموضوع منذ ذلك الحين، ليتجسّد في هذا المنشور «كوريا والعالم الإسلامي: سرد تاريخي». ويعالج الكتاب موضوعاته بدقة متناهية مرتكزا على وثائق وافرة ومصادر أصلية. وسيكون مساهمة بارزة في المصادر والدراسات حول تاريخ السياسة، والعلاقات بين الأقاليم، والتفاعلات الثقافية، وتاريخ العالم الإسلامي، وسيفتح بالتأكيد آفاقًا جديدة في الموضوعات ذات الصلة في الدراسات الإسلامية ودراسات تاريخ العالم.