لطالما كانت مؤسسة الوقف عنصراً أساسيّا في التقاليد الإدارية والمؤسسية للمجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم. وعليه فقد حضِيت الدراسات العلمية التي تتطرق إلى مختلف جوانب تطور وإدارة الأوقاف بأهميّة كبيرة في مجال البحث الأكاديمي في التاريخ والحضارة الإسلامية. ويتضمن هذا الكتاب اثنتي عشرة ورقة أكاديمية قيّمة قُدِّمت في المؤتمر الدولي حول «تاريخ وإدارة الأوقاف في جنوب وجنوب شرق آسيا: التدخلات الاستعمارية والدول الحديثة» والذي تمّ تنظيمه بالتعاون بين إرسيكا والجامعة الإسلامية الدولية في ماليزيا وذلك في الرابع والخامس من يوليو 2018 في العاصمة الماليزية، كوالالمبور. وشكّل المؤتمر منصة قيّمة شارك فيها باحثون في التاريخ ودراسة الأوقاف إذ تبادلوا المعرفة وتفاعلوا في حوارات متعدّدة التخصّصات للنظر في وضع المؤسسة الوقفية وتطورها في العالم الإسلامي. وعلى هذا الأساس، يعكس هذا الكتاب المقترحات والنتائج والمساهمات الرئيسية للخبراء الرائدين في هذا المجال بهدف مشاركتها مع الأوساط الأكاديمية العالمية.
وتتناول المقالات الواردة في هذا الكتاب جوانب مختلفة تتعلق بالأوقاف في جنوب وجنوب شرق آسيا، منها تاريخ الأوقاف وإدارتها؛ والسياسات والقوانين والجوانب الإدارية المتعلقة بالأوقاف؛ وتأثير الأوقاف على التعليم العالي؛ والعلاقات بين الأوقاف والقطاعات غير الربحية؛ ودراسات مقارنة حول الأوقاف؛ وأثر الاستعمار على مؤسسات الوقف؛ وآثار الدول الحديثة على الأوقاف؛ والاستراتيجيات المستقبلية لتحسين الأنظمة الحالية لإدارة الأوقاف.
ويُستهلُّ هذا العمل بمقالتيْن من إعداد المتحدثيْن الرئيسييْن البارزيْن في المؤتمر وهما كلٌّ من الأستاذ الدكتور اشتياق أحمد ضِلِّي، مدير دار المصنفين أكاديمية شبلي (أزامجاره، الهند) والأستاذ الدكتور تورو ميورا، نائب رئيس جامعة أوشانوميزو وأستاذ في مكتبة تويو بونكو (طوكيو، اليابان). ويقدم الدكتور ضِلِّي في مقاله المعنون «كفاح المسلمين الهنود لمقاومة التدخل الاستعماري: الوقف على الأولاد»، عرضًا شاملاً للتدخل الاستعماري البريطاني في ممتلكات الوقف والطرق التي حاولت بها الجالية المسلمة في الهند التصدّي لهذه التدخلات غير العادلة. وذكر أنه خلال فترة الحكم الإسلامي الطويلة في الهند، تم إنشاء عدد كبير من الأوقاف الخيرية سواء من قِبَلِ الأفراد أو الحكومات، مبيّنا أنه بعد سقوط المغول وهيمنة القوى البريطانية على شبه القارة الهندية، اِخْتُلِسَت الأوقاف من طرف الحكام الاستعماريين وحلفائهم المحليين، وموضّحا بأمثلة ملموسة كيف تمّت مصادرة ممتلكات الأوقاف الإسلامية خاصة بعد فشل حرب الاستقلال عام 1857.
وأمّا المقال الثاني للدكتور تورو ميورا والمعنون «مقارنات بين الأقاليم فيما يخصّ الوقف والهبات المماثلة في تاريخ البشرية» فيقارن ويناقض تطوّر مؤسسة الوقف في الثقافات المختلفة. ويستهلُّ الدكتور ميورا مقاله بتقديم تعريف عام لمؤسسة الوقف واستعراض الدراسات المقارنة التي أجرتها مكتبة تويو بونكو حول تطور مؤسسات الوقف في الثقافات المختلفة، ثمّ مقارنة مفصّلة بين الأقاليم بشأن الأوقاف والتبرعات المماثلة في الصين واليابان قبل العصر الحديث. ويوازي المقال بين أشكال مختلفة من تبرعات الوقف في العالم الإسلامي وتبرعات كيشين في اليابان. ومن خلاله، يهدف الدكتور ميورا لإيجاد وجهة نظر مشتركة ونظام عالمي يمكن أن يَحُلَّ المعضلة بين الاقتصاد والدين، والمصالح الخاصة والمجتمعية.
أمّا المقال الثالث فقد جاء تحت عنوان «دور المرأة في إنشاء وإدارة الأوقاف: منظور تاريخي»، للأستاذ عبد العظيم إصلاحي من جامعة الملك عبد العزيز (المملكة العربية السعودية)، وفيه يظهر الباحث أنّ النساء المسلمات لم يتخلّفن عن ممارسة الأعمال الخيريّة عبر التاريخ بما في ذلك إنشاء الأوقاف. وذكّر الأستاذ إصلاحي أنّ النبي ﷺ شجّع النساء على عمل الخير والإنفاق على الفقراء والأقارب، كما درس الباحث الدور العام الذي لعبته النساء في إنشاء الأوقاف والمحافظة على استمرارية أنشطتها. ويجادل بأن مؤسسة الوقف لعبت دوراً حاسماً في تمكين المرأة ومشاركتها في الحياة الاجتماعية. كما يقدم أمثلة محددة من زمن النبي ﷺ إلى الفترات الأموية والعباسية والأيوبية والعثمانية والتي لعبت فيها النساء دوراً فعّالا في تشكيل وإدارة الأوقاف في مناطق مختلفة.
وبدوره يركز المقال الرابع على دور «الأوقاف التركية في آتشيه بعد تسونامي 2004»، وهو من إعداد الدكتور أرشد إسلام والسيد علاء الدين تكين من قسم التاريخ والحضارة بالجامعة الإسلامية الدولية في ماليزيا. واستعرض الباحثان تطور مؤسسة الوقف في الثقافة والتاريخ التركي، مُقدِّميْن لمحة عامة عن العلاقات التي ربطت بين الأتراك والأتشيهيين على مرّ التاريخ، وذكرا أنشطة الأوقاف التركية في منطقة آتشيه في مجالات الإسكان والتعليم والدعم الاجتماعي. وباستنادها إلى المقابلات التي أُجريت في المنطقة والمعلومات الأولية التي أُخِذت من مؤسسات الوقف ذات الصلة، تُبرِز هذه الدراسة كيف وطّدت أعمال الأوقاف التركية العلاقات الأتشينية-التركية في أعقاب كارثة تسونامي في عام 2004.
وفي المقال الخامس المعنون «أوقاف المقاصد وانعكاساتها من منظور جديد»، يلخّص الدكتور محمد طاهر ثابت حجي محمد أولاً مفهوم المقاصد الشرعية مبرزا العلاقة بينها وبين أهداف الوقف الخيرية. كما يشرح بالتفصيل مفاهيم حفظ الدين، والنفس البشرية، والعقل البشري، والجنس البشري، والملكية الفردية، ويوضح كيف ترتبط هذه المفاهيم بأغراض الوقف مثل الخضوع لله، والوصاية، وتنمية المجتمعات، والاستدامة، والتضامن وإعادة توزيع الثروة والإيثار. ويقدم الدكتور محمد مفهومًا موسعًا حول مؤسسة الوقف بحيث يمكن أن يشمل جميع مقاصد الشريعة وكذلك الأولويات مثل تعظيم المنفعة و نفي الضرر.
أمّا المقال السادس فقد أعدّه كلٌّ من علي الفيجاوي، ومولانا أكبر شاه، وعلي زمان كامون، تحت عنوان «الوقف واستبداله، ومقاصد الشريعة». وعلى غرار المقال السابق، تُقدّم هذه الدراسة تعريفًا عامًا لمفهوم الوقف مُوضحة الصلة بين أهداف الشريعة وأهداف الأوقاف. واستند الكُتّاب على استبيان أصدرته أكاديمية الفقه الإسلامي الهندية (IFA) في عام 1997 من أجل سبر آراء العلماء الهنود حول الوقف ووضعية هذه المؤسسات في الهند. وتهدف هذه الدراسة إلى معرفة ما إذا كان الاستبدال، كتدبير من صنع الإنسان، يلتقي بمقاصد الشريعة وذلك من خلال النظر في أمثلة ملموسة.
وفي المقال السابع الذي جاء بعنوان «استكشاف ديناميكية وقف النقود في الإسلام: دراسة لإنشاء وقف النقود في ماليزيا»، يستعرض الباحثان أميله أوانغ عبد الرحمان، والدكتور عبد الباري أوانغ، التطور التاريخي لمؤسسة الوقف منذ زمن النبي ﷺ. ويقدم الكاتبان تصنيفًا عن إنشاء وقف النقود الذي اقترحه الفقهاء الإسلاميون والذي يشمل المضاربة وقروضا بدون فوائد. وتبحث الدراسة أيضًا في بعث وقف النقود في ولايات مختلفة في ماليزيا.
ويلي هذا المقال دراسة بعنوان «التطور التاريخي لحوكمة الأوقاف في بنغلاديش: التحديات والآفاق» للدكتور محمد توحيد الإسلام من الجامعة الإسلامية الدولية في شيتاغونغ (بنغلاديش)، وفيه يقدّم الكاتب تحليلاً للمراحل المختلفة للتطور التاريخي لإدارة الأوقاف في الدولة، مبيّنا أنّ هذه المؤسسات شكّلت جزءًا مهمًا من الحياة المجتمعية في منطقة البنغال منذ ظهور الإسلام في القرن الثالث عشر ولعبت دورًا حاسمًا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتؤكد الدراسة أن العديد من المؤسسات التعليمية المختلفة قد ازدهرت في البنغال بفضل الأوقاف المدعومة من أثرياء المسلمين. واستعرض الباحث أيضا لمحة عامة عن قوانين الوقف وردود الفعل الاجتماعية في البنغال ابتداءً من الحقبة الاستعمارية تحت الحكم البريطاني وصولاً إلى فترة استقلال بنغلاديش، مبرزا في الختام التحديات الرئيسية لحوكمة الأوقاف في البلاد، ومقدّما مقترحات سياسية ملموسة لتحسين الوضع الحالي.
أما المقال التاسع فكان حول «تاريخ الوقف وظهور المساجد في مالابار: دراسة مستندة إلى مخطوطة (قصّة)» للدكتور عباس بانكال من جامعة جريفيث في أستراليا. تركز هذه الدراسة على المخطوطة المذكورة كمصدر تاريخي أصلي يعرض التطور الأولي للإسلام والأوقاف في جنوب وجنوب شرق آسيا. وفيها يذكر الكاتب اعتناق الملوك والحكام الإسلام في منطقة مالابار الساحلية منذ زمن النبي ﷺ، مبينا كيفية بناء المساجد الأولى في المنطقة من قبل المجتمعات الإسلامية وإنشاء أولى الأوقاف هناك. وتعتبر هذه الدراسة مهمّة وأساسية من حيث التأكيد على الجذور المبكرة للأسلمة في جنوب آسيا، وعلى الدور الذي لعبته المساجد والأوقاف في التطور المؤسسي في المنطقة.
وفي المقالة العاشرة التي قدّمها كلٌّ من علي زمان كامون، ومريم سعيدو ناتاجورانو، ومحمد فريد علي، فقد تم التطرق إلى «دور الأملاك الوقفية في تطوير المؤسسات الإسلامية في الفلبين: قضايا وتحديات». ويرى الباحثون أنّ الأوقاف أصبحت أدوات لتحسين الوضع القانوني والاجتماعي والاقتصادي للمؤسسات الإسلامية في البلاد، مبيّنين كيف سهّلت الخدمات المختلفة التي تدعمها مؤسسات الوقف، حياة أقلية مسلمة تعيش في ظل دولة مسيحية علمانية. واستعرضوا تفاصيلا حول بانجسامورو، أي الأقليات المسلمة في الفلبين، ونوّهوا إلى مساهمات الأوقاف في الحفاظ على الهوية الإسلامية في مواجهة السياسات الاستيعابية التي تنتهجها السلطات الرسمية. وتشير الدراسة إلى المؤسسات التربوية والدينية المختلفة المدعومة من الأوقاف كما تقدم آفاقا مستقبلية لتحسين النظام القانوني والمالي المحيط بنظام الوقف.
وأما في المقال الحادي عشر المعنون «أسس مؤسسات الوقف: وجهة نظر تاريخية»، فقد بحث كاتبه السيد عرفان أحمد شيخ، الدوافع الرئيسية التي ساعدت على تطوير الوقف كأداة مميزة لتقديم الخدمات العامة في العالم الإسلامي. والإشكالية المركزية التي تحاول الدراسة الإجابة عنها هي كيف سمحت الدول الإسلامية بإنشاء مؤسسات الوقف عبر التاريخ على الرغم من أنها خفّضت بشكل كبير قاعدتها الضريبية الملموسة. وبعد مقدمة مفاهيمية وتاريخية، يشرح الكاتب أن المثل العليا للعدالة الاجتماعية والانسجام دعمت توسيع الأوقاف على الرغم من القضايا الضريبية، في حين أن حوكمتها تغيرت مع حركات التحديث في مناطق جغرافية مختلفة.
وأمّا المقال الأخير الذي أعدّه كلٌّ من أنور عزيز وجواد علي تحت عنوان «دراسة مقارنة لحوكمة مؤسسات الوقف في الهند وماليزيا»، فقد اشتمل على مقارنة شاملة عبر التاريخ لمؤسسات الوقف في البلديْن المذكوريْن بهدف تسليط الضوء على القضايا الرئيسية المتعلقة بحوكمة وإدارة الأوقاف. ولتحقيق هذا الهدف، سلّط الباحثان الضوء على قوانين الوقف والنماذج الإدارية، ودور المتوليين، والقيود القانونية الرئيسية، وقضايا المساءلة والإفصاح، وكذلك الأثر النسبي للاستعمار على الأوقاف. وخلصوا إلى أن هناك مجالات محددة يمكن فيها للبلديْن تبادل الخبرات في إدارة الأوقاف.
ومن المتوقّع أن يصبح هذا الكتاب مرجعا رئيسيّا للباحثين الذين يركّزون على جوانب مختلفة من موضوع الأوقاف بشكل عامّ، ولأولئك الذين يقومون بدراسات حول جوانب معيّنة من تاريخ وإدارة الأوقاف في جنوب وجنوب شرق آسيا بشكل خاصّ.